هناك أيام تمر على الإنسان بثقل ينوء تحت قساوته , وقصتنا هذه معاناة فتاة صغير شاءت الأقدار أن تجعلها بطلة حرب بلا هوادة في مواجهة شبح الفقر.
في قرية صغيرة تدعى " دوار الجنان " وسط منزل أشبه ما يكون بكهف مظلم , هناك عاشت أسرة صغير عدد أفرادها ثلاثة , أب راعي غنم تظهر عليه خدوش الزمن وتعرية الدهر, أم لم تترك لها طاحونة الأيام القاسية فرصة للتمييز بين ما هو جميل في الحياة وما هو مأساة , أما الفرد الثالث فهو شخصية رجاء التي هي بطلة قصتنا الصغيرة.
تستيقظ رجاء ذات يوم باكرا كعادتها لتقوم نيابة عن أبيها بإخراج القطيع الصغير المتكون من شويهات هي أمل الأسرة في الحصول على ما تيسر من الحليب والصوف , وبعدها تتناول كسرة من الخبز وكأسا من الشاي وتحمل محفظتها المرقعة متوجهة نحو مدرسة تبعد بفارق زمني قدره ساعتين وحاجز طبيعي جامع لكل وعورة الطبيعة , إنها تحيي أمها بقبلة صغيرة لكنها تفاجأ بصيحة عالية تصك أذان الجميع
« إلى أين انت ذاهبة »
هكذا قال الأب لابنته في نظرة صارمة ويدور الحوار التالي :
رجاء: إنني ذاهبة إلى المدرسة يا أبي
الأب : المدرسة , هذا ما ينقصنا ,هذا هو مثل جدي " ما ينقصك يا عريان " أجاب:
" ينقصني خاتم من ذهب " ارجعي لتساعدي أمك في تشذيب الأشجار علك تجدين بعض الحطب يقينا برد الشتاء القارس .
الأم : دعها لشأنها , أيرضيك ما نحن فيه , ألسنا ضحيتين لجهل أبائنا , لو أتيحت لنا فرصة التمدرس لكنا على الأقل في وضع أحسن من هذا .
الأب : ماذا أجدت الدراسة لأبناء الجيران , فمحمد ابن اخي أتم دراسته على مستوى عالي ولم يجد عملا لحد الآن , ولازال يتوسل لأمه حتى ترشقه بدريهمات تحجبه عن الناس داخل المقاهي .
رجاء : الحياة حظوظ يا أبي , والأرزاق بيد الله , ألا تعلم أن الله سبحانه وتعالى فضل العلماء على بقية الناس , ولا تنسى أنني دقت حلاوة الحروف ورونق الجمل , كما أنني احصل على نتائج سارة.
الأب : لقد ضقت ذرعا لسماع أحاديث عن المدرسة القوت أم الكتاب , الشعير أم الأقلام على العموم فأبوك ليس لديه من زاد الدنيا ما يكفي يومه فبالأحرى هذه المدرسة اللعينة.
الأم : لا تكن قاسيا على وحيدتنا , فلا تكن أنت والزمان عليها , ولا تنسى أني فخورة ببنتي فرغم قلة إمكانياتها فهي بشهادة معلمتها واحدة من المجدات , لا تحرمها من رجائها الكبير وهو رغبتها في التعلم لكي تساعدنا عندما تصبح كبيرة.
رجاء : أجل يا أماه ! إن نتائجي الدراسية أدهشت المعلمة وحتى زملائي وزميلاتي في المدرسة لدرجة أن معلمتي وعدتني بمساعدة مادية بعدما شكوت لها مشاكلي الاجتماعية.
الأب : هذا كلام كبير ماعهدته يقال , إلا في هذه الأسرة , أنا أشرق وأنتم تغربون , من الرجل في هذه العائلة ؟
أسمعني يازمن ! أصبحت أضحوكة في بيتي !
رجاء تجهش بالبكاء ووتوجه نحو زاوية البيت أمام نظرة أمها الأليمة وثورة أب جامح كأنه يريد إلقاء جميع مكبوتاته النفسية وحرمانه الاجتماعي على ضعيفتين سلبتهما الحياة أبسط التفاؤل .
يعم صمت كئيب وطويل على البيت , تعانق الصغيرة أمها ونحيبها يشق جدران الكوخ , تتحرك عاطفة الأبوة فجأة ويرتخي شانب الأب , ويتمتم بكلمات متقطعة : قومي ! أسرعي!
شكرا لك يا أبي تقولها رجاء وكأنها قد بعثت من جديد وتنقض على محفظتها مهرولة نحو الباب , تتوقف وتقبل أباها , هذا الأخير يطلق العنان لابتسامة صامته تقابلها الأم ببشاشة منتهية النظير.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire